أفقت من إستغراقي في التأمل على صوت أبي وقد علت نبراته يسألني: ما هو ردك؟..
فإذا بي أجيب بهدوء وإصرار أنني أرفض، فلن أكون كمًّا مهملا بعد أن أبصرت طريقي.
لمحت نظرة الحزن تملأ وجه أمي، وأبي يقول لها: دعيها تدبر أمرها كما ترى، وإنصرفت عني وهى تبتسم إبتسامة غريبة باهتة تخبرني بها أنها لا تتبين ما أعنيه.
وأخذت أحادث نفسي وأنا ابحث بداخلها عما يعتريني من المعاني، ووجدتني أردد: نعم لابد لي أن ارفض هذا المتقدم للزواج مني حتى وإن كنت على وشك أن يفوتني قطار الزواج وأن يكون نصيبي العنوسة كما تقول أمي وهي تؤكد أن هذه فرصتي وقد تكون الأخيرة!
لقد صالحتُ نفسي منذ زمن بعيد، وتعلَّم عقلي كيف يدقق كثيرا قبل أن أخطو أي خطوة في حياتي وأن يطهر قلبي من الشوائب والمشوشات التي تحول بينه وبين التوجه إلى الباري سبحانه، الذي أسأله دوما أن يدلني على الطريق الصواب وأن يجعل لي نورا أستضئ به في عمري.
لن أرتبط بإنسان لمجرد ما يقال عنه أنه يمتلك مالا ويعمل ليلا ونهارا طلبًا للمزيد وأنه قد أُتيحت له فرصة عمل بالخارج وأنه يريد تكوين أسرة إلا أنه غير مسموح له بإصطحابها أو أنه هو الذي يرفض ذلك ليتمكن من تقليل ما ينفق!
فمنذ أن وعيت على الدنيا وأنا رقم في أسرة يحرص فيها الوالدان على إنجاب أكبر عدد من الأبناء، فأمي كانت قد تزوجت قبل والدي وتوفى عنها زوجها بعد أقل من شهرين، ولم تلبث والدتها أن سارعت بتزويجها بعد أن إنقضت عدتها، وكان زواجها من أبي الذي كان هو الأخر خارجا من تجربة زواج حصيلتها ابن له كان في الثامنة من عمره حين تزوج بأمي.
ومنذ مرحلة الطفولة وأنا مجرد رقم في تلك الأسرة التي يزداد عددها واحدًا كل عامين تقريبا، وكلما مرت الأيام إزددت يقينا أنه لن يبالي أحد بأحد، فالأب يعمل طوال الوقت ويعود منهكا متعبا، والأم يحيط بها أبناؤها السبعة بالإضافة إلى أخيهم الغير شقيق الذي يقيم معنا أحيانا وكثيرا ما كان يمكث عند خالة له.
أمي امرأة بسيطة منشغلة طوال الوقت بإعداد ما تطعم به هذه الأفواه، وبأعمال المنزل التي لا تنتهي، ونظرًا لأني لم أكن أكبر الأبناء ولا أصغرهم فقد أدركت أن عليَّ الاهتمام بكل شئوني بل والمساعدة دائما للآخرين.
وقد منَّ الله عليَّ بحب الدراسة والتفوق في التحصيل والغوص في القراءة ولم يكن أحد يهتم بذلك أو حتى يلاحظ هذا الأمر إلا أن الله قد رزقني بمعلمة في المدرسة إنتبهت لي وأخذت توليني إهتماما وتخصني بمتابعة تحصيلي، وكانت هذه نعمة من الله.
وحدث أن معلمتي قابلتني أسير مع أمي في أحد الطرق فأقبلتْ على أمي وقبلتْ رأسها، وقالت لها: بارك الله في إبنتك.. ولم تبالي أمي بذلك بل لم تعلق فموضوع الدراسة في بيتنا يسير برتابة وكأنه إحدى العادات اليومية التي تقوم بها الأسرة، ولكن كلمات معلمتي حفزتني على المواصلة وبذل الجهد وأرست بداخلي أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وأنه سبحانه يمدنا بالعون، فخالة أخي -الغير شقيق- والتي كنت أنظر إليها على أنها امرأة عظيمة حيث كانت تهتم بأخي بصورة مبهرة، ورغم أنها كانت تعاني من نوع من الإعاقة في قدميها إلا أنها كانت أحيانا تأتى لمنزلنا وتتفقد أحوال أخي، وكانت أيضا تحب أمي وتسدى لها الكثير من الخدمات والمساعدات، وكانت أمي رغم كل مشاغلها تفرح بزيارتها وترحب بها وحين حكت لها أمي عن موقف معلمتي كنوع من الغرائب، شعرتُ ساعتها أن نظرة تلك الخالة لي قد تغيرت بل الأصح أنها أصبحت تنظر إليَّ نظرة خاصة وأخذت تخصني بالحوار، وتشجع أخي على أن يصطحبني معه لزيارتها.
أبهرتني مكتبتها وبرقي بالغ أهدتني بعض الكتب بل أصرت عليَّ أن أستعير كل ما أحتاج من مكتبتها، وبفضل الله أتممت حفظ القرآن على يديها، وهكذا أحسست أن لي طريقًا خاصًا، فحين تزوجت أختي الكبرى وحاولت أمي أن تُعدني للزواج تهربت منها وأوضحت لها أن عليَّ أن أنهي دراستي التي لا أريد لها أن تنتهي، وبالفعل تزوجت التي تصغرني والتي تليها، وكنت أشعر بقلق أمي الدائم ولم أكن أملك إلا أن أطمئنها وأطلب منها ألا تهتم بشأني فأنا قد أتقنت الإهتمام بشئوني.
وإستجاب الله لها ولي، ولم تطل حيرتها ومقاومتي، ولم يظل الإختيار بين أن أكون مجرد رقم في بيت جديد أو أن أظل متميزة ولكن وحيدة، فقد رزقني الله بزوج يهتم بإ وأتفق معه في أولوياته وجعل الله بيننا مودة ورحمة.
الكاتب: تهاني الشروني.
المصدر: موقع رسالة المرأة.